تركي الشثري
12-05-2008, 06:44 PM
الأغلال الثقال
استوقفني أحد الطلاب في درس الأدب العربي عند بيت للشاعر الأندلسي ابن خفاجة الذي يقول فيه:
يا أهل أندلس لله دركمُ
ماء وظل وأشجار وأنهار
وقال ليس هذا بشعر؛ فانبسطت أسارير قلبي ووجهي وذوقي.. نعم هذا ما كنا نبغي الأذن الفاحصة الطالب المتسائل الشغوف قلت فما هذا إذن؟ قال: تعديد.
راق للطلاب هذا التحريك للساكن، والتغيير للمألوف من أن ما قاله المعلم فهو حجة وأن ما جاء في المنهج فإنه يعلو ولا يعلى عليه وأن الأبيات والقصائد في الكتاب روائع لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وكأن وصف الطبيعة الذي تفوق فيه أهل الأندلس على المشارقة لم يجد إلا بهذا التعديد على حد تعبير الطالب النجيب.
راق للطلاب الأخذ والرد.. فقال آخر: هذا يا أستاذ نثر. قفزت إلى ذهني في هذه الأثناء مروية المرزباني عن الراعي النميري عندما أنشد عبدالملك بن مروان قوله:
أخليفة الرحمن إنا معشر
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا
حق الزكاة منزلا تنزيلا
فقال له عبدالملك: ليس هذا شعرا. هذا شرح إسلام وقراءة آية.
هنا يأتي السؤال: ما هو الشعر؟ هل هو: الكلام الموزون المقفى إذا كان هو الكلام الموزون المقفى فهو ما عناه عنترة بقوله: (هل غادر الشعراء من متردم). وما عناه زهير بن أبي سلمى.
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من لفظنا مكرورا
الكلام الموزون المقفى تغص به المكتبات وتشرق به صفحات الجرائد ويتشدق به كل من نطق الضاد ويوجد في الألغاز والأحاجي والمنظومات العلمية. فهل هذا شعر؟ جنوا عليك أيها الفن الأسمى. لقد تنبه الأوائل لهذه القضية قبل أن نتقيأ هذا التعريف الآسر، بل إن بعضهم أضاف الشعرية وصفا لبعض الكلام غير الموزون ولا المقفى قال القرطاجني (ما كان من الأقاويل القياسية مبنيا على تخييل وموجودة فيه المحاكاة فهو يعد قولا شعريا) أما الفارابي فقال: (القول إذا كان مؤلفا مما يحاكي الشيء ولم يكن موزونا بإيقاع فليس يعد شعرا ولكن يقال هو قول شعري).
أنا لا أناقش قول الفارابي (ولم يكن موزونا) بقدر ما أسلط الضوء على قوله (مما يحاكي الشيء) وقول القرطاجني (تخييل وموجودة فيه المحاكاة) (التخييل) (المحاكاة) (الصورة) (الإيحاء) هنا مربط الفرس والجمل وما شئت. إن الأوراق المصورة التي يتداولها العامة ويقفون مشدوهين أمام سحر بيانها والأبيات الموزونة المقفاة التي تطالعنا كل صباح كأخبار الحوادث والزلازل ليست إلا خطبا أو دروسا اجتماعية ولو صنفت فكرا لكان ذلك أجدى لها وللناس أجمعين. وليحفظ الناس الطيبين ماء وجوههم أمام مقاييس النقاد التي لا تبقي ولا تذر ولا تشفِّع المضمون الجيد في الأسلوب الفني الرديء.
هذه الأبيات الموزونة المقفاة تقدح في ذهن المتلقي سؤالا مفاده: هل يعود عصر الانحطاط والمحسنات البديعية المتكلفة؟ وإنه مما يؤسف أن أطلع في يوم شؤم على قصيدة عصرية من بيت واحد وأن أرى أحدهم في القرن الحادي والعشرين يلقي أبياته الموزونة المقفاة الصفر من الصورة والتخييل والشاعرية يلقيها بجهورية وزيادة ثم يختمها ويتنفس الصعداء متوسما في الجمهور أن يهتف أحدهم قائلا: (اذهب فأنت أشعر العرب).
ما هو الشعر: هل هو الكلام الموزون المقفى؟ لا أجد جوابا، ولكن لن أعدوا ما تواطأ عليه أعمدة النقد في العالم العربي من التصريح برفض هذا التعريف والاعتراف بأنه شر لابد منه إلا أن يبعث الله من يعطينا تعريفا للشعر يفسده؛ لأن الشعر إذا شرح فسد فقد يكون تعريف مصطلح الشعر يفسده كما أن شرح الشعر من لدن الشاعر يفسده. ورحم الله أبا الطيب حيث قال:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وغفر الله للجواهري الذي قتل القراء بشرح ديوانه، وقيد نصوصه بالأغلال الثقال. ولنتأمل أبا نواس عندما مر بمعلم محاط بمريديه، فتوقف ليسمع من المعلم شرحا لشعره هو عندما قال:
ألا فاسقني خمرا
وقل لي هي الخمر
علق المعلم قائلا: إن الشاعر أبصر الخمر فانتشت حاسة البصر وشمها فانتشت حاسة الشم وتذوقها فانتعشت حاسة الذوق ولمسها فانتشت حاسة اللمس وبهذا بقيت حاسة السمع محرومة من النشوة فقال: وقل لي هي الخمر، وبهذا انضمت حاسة السمع إلى بقية الحواس المنتشية. دخل أبو نواس على المعلم وقبل يده ورأسه وقال: بأبي أنت وأمي. فهمت من شعري ما لم أفهم.
بعد هذه القصة.. كيف نعرف الشعر؟ كيف نقيد هذه الظاهرة؟ التي ترفض التحديد.. إذا كان قائل الشعر يفهم من شعره ما لم يفهم عن طريق المتلقي فكيف يهون علينا قتل الشعر بتعريفه ومن هنا نعيد حساباتنا ونغير السؤال:
من: س- ما هو الشعر؟
إلى: س- هل نعرف الشعر؟
وكل عام وأهل التعديد وأهل الوزن والقافية بخير..
تركي بن رشود الشثري
جريدة الجزيرة
استوقفني أحد الطلاب في درس الأدب العربي عند بيت للشاعر الأندلسي ابن خفاجة الذي يقول فيه:
يا أهل أندلس لله دركمُ
ماء وظل وأشجار وأنهار
وقال ليس هذا بشعر؛ فانبسطت أسارير قلبي ووجهي وذوقي.. نعم هذا ما كنا نبغي الأذن الفاحصة الطالب المتسائل الشغوف قلت فما هذا إذن؟ قال: تعديد.
راق للطلاب هذا التحريك للساكن، والتغيير للمألوف من أن ما قاله المعلم فهو حجة وأن ما جاء في المنهج فإنه يعلو ولا يعلى عليه وأن الأبيات والقصائد في الكتاب روائع لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وكأن وصف الطبيعة الذي تفوق فيه أهل الأندلس على المشارقة لم يجد إلا بهذا التعديد على حد تعبير الطالب النجيب.
راق للطلاب الأخذ والرد.. فقال آخر: هذا يا أستاذ نثر. قفزت إلى ذهني في هذه الأثناء مروية المرزباني عن الراعي النميري عندما أنشد عبدالملك بن مروان قوله:
أخليفة الرحمن إنا معشر
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا
حق الزكاة منزلا تنزيلا
فقال له عبدالملك: ليس هذا شعرا. هذا شرح إسلام وقراءة آية.
هنا يأتي السؤال: ما هو الشعر؟ هل هو: الكلام الموزون المقفى إذا كان هو الكلام الموزون المقفى فهو ما عناه عنترة بقوله: (هل غادر الشعراء من متردم). وما عناه زهير بن أبي سلمى.
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من لفظنا مكرورا
الكلام الموزون المقفى تغص به المكتبات وتشرق به صفحات الجرائد ويتشدق به كل من نطق الضاد ويوجد في الألغاز والأحاجي والمنظومات العلمية. فهل هذا شعر؟ جنوا عليك أيها الفن الأسمى. لقد تنبه الأوائل لهذه القضية قبل أن نتقيأ هذا التعريف الآسر، بل إن بعضهم أضاف الشعرية وصفا لبعض الكلام غير الموزون ولا المقفى قال القرطاجني (ما كان من الأقاويل القياسية مبنيا على تخييل وموجودة فيه المحاكاة فهو يعد قولا شعريا) أما الفارابي فقال: (القول إذا كان مؤلفا مما يحاكي الشيء ولم يكن موزونا بإيقاع فليس يعد شعرا ولكن يقال هو قول شعري).
أنا لا أناقش قول الفارابي (ولم يكن موزونا) بقدر ما أسلط الضوء على قوله (مما يحاكي الشيء) وقول القرطاجني (تخييل وموجودة فيه المحاكاة) (التخييل) (المحاكاة) (الصورة) (الإيحاء) هنا مربط الفرس والجمل وما شئت. إن الأوراق المصورة التي يتداولها العامة ويقفون مشدوهين أمام سحر بيانها والأبيات الموزونة المقفاة التي تطالعنا كل صباح كأخبار الحوادث والزلازل ليست إلا خطبا أو دروسا اجتماعية ولو صنفت فكرا لكان ذلك أجدى لها وللناس أجمعين. وليحفظ الناس الطيبين ماء وجوههم أمام مقاييس النقاد التي لا تبقي ولا تذر ولا تشفِّع المضمون الجيد في الأسلوب الفني الرديء.
هذه الأبيات الموزونة المقفاة تقدح في ذهن المتلقي سؤالا مفاده: هل يعود عصر الانحطاط والمحسنات البديعية المتكلفة؟ وإنه مما يؤسف أن أطلع في يوم شؤم على قصيدة عصرية من بيت واحد وأن أرى أحدهم في القرن الحادي والعشرين يلقي أبياته الموزونة المقفاة الصفر من الصورة والتخييل والشاعرية يلقيها بجهورية وزيادة ثم يختمها ويتنفس الصعداء متوسما في الجمهور أن يهتف أحدهم قائلا: (اذهب فأنت أشعر العرب).
ما هو الشعر: هل هو الكلام الموزون المقفى؟ لا أجد جوابا، ولكن لن أعدوا ما تواطأ عليه أعمدة النقد في العالم العربي من التصريح برفض هذا التعريف والاعتراف بأنه شر لابد منه إلا أن يبعث الله من يعطينا تعريفا للشعر يفسده؛ لأن الشعر إذا شرح فسد فقد يكون تعريف مصطلح الشعر يفسده كما أن شرح الشعر من لدن الشاعر يفسده. ورحم الله أبا الطيب حيث قال:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وغفر الله للجواهري الذي قتل القراء بشرح ديوانه، وقيد نصوصه بالأغلال الثقال. ولنتأمل أبا نواس عندما مر بمعلم محاط بمريديه، فتوقف ليسمع من المعلم شرحا لشعره هو عندما قال:
ألا فاسقني خمرا
وقل لي هي الخمر
علق المعلم قائلا: إن الشاعر أبصر الخمر فانتشت حاسة البصر وشمها فانتشت حاسة الشم وتذوقها فانتعشت حاسة الذوق ولمسها فانتشت حاسة اللمس وبهذا بقيت حاسة السمع محرومة من النشوة فقال: وقل لي هي الخمر، وبهذا انضمت حاسة السمع إلى بقية الحواس المنتشية. دخل أبو نواس على المعلم وقبل يده ورأسه وقال: بأبي أنت وأمي. فهمت من شعري ما لم أفهم.
بعد هذه القصة.. كيف نعرف الشعر؟ كيف نقيد هذه الظاهرة؟ التي ترفض التحديد.. إذا كان قائل الشعر يفهم من شعره ما لم يفهم عن طريق المتلقي فكيف يهون علينا قتل الشعر بتعريفه ومن هنا نعيد حساباتنا ونغير السؤال:
من: س- ما هو الشعر؟
إلى: س- هل نعرف الشعر؟
وكل عام وأهل التعديد وأهل الوزن والقافية بخير..
تركي بن رشود الشثري
جريدة الجزيرة