ضـــبـــاب الْغــــــــرَبِّه
تُحَرِّك الْرَّجُل بِخُطُوَات مُتَثَاقِلَة تَحْت سِتَار الْظَّلام وَقَد ظَهَر عَلَيْه الْإِعْيَاء الْشَّدِيْد
لَم يَكُن الْرَّجُل قَد تَجَاوَز الْثَّلاثِيْن مِن عُمُرِه وَلَكِن الْحَيَاة وُضِعَت خُطُوْطَهَا عَلَى
مَلَامِحِه الْشَّابَّة لِتُحَوِّلُه إِلَى رَجُل يُصَارِع سَنَوَات أَلْكُهَولِه
تَنَهَّد الْرَجُل بِصُعُوَبَة ثُم
نَظَر إِلَى عَرَبَتِه الْمُتَهَالِكَة وَقَد حَطَّمْتُهُا الْلَّيَالِي وَكَتَب الْزَّمَن عَلَيْهَا مُعَانَاتِه ثُم الْتَفَت إِلَى حَصَانَه انَّه يَلْفِظ أنَفَاسَه الْأَخِيْرَة وَلَا شَك
تُحَرِّك الْرَّجُل وَاخَذ يُرَبِّت بِلُطْف عَلَى حَصَانَة الَّذِي كَان نَعَم الْصِّدِّيق لَه خِلَال رِحْلَاتِه رَفَع الْحِصَان رَأْسِه لِيَنْظُر لِمَالِكَة بِعَيْنَيْن دَامِعَتَيْن وَكَأَنَّه يَعْلَم مَأْسُوف يُحَدِّث
"هُش ,وَاخَذ يَتَحَسَّس رَأسَه بِرِفْق" لا تَتُحَرّك يَا صَدِيْقِي فَانّا هُنَا مَعَك"
قَام الْرَّجُل وَأُشْعِل الْنَّار ثُم
اسْتَلْقَى بِقُرْبَة وَاخَذ يَتَحْدُث إِلْيَة وَهُو يَنْظُر إِلَى الْسَّمَاء
مَا أجْمّل هَذِه الْلَّيْلَة فَانّا لَم أَرَى هَذَا الْقَدْر مِن الْنُّجُوْم مُنْذ مُدَّة أَتَعْلَم لَقَد اشْتَقْت لِبَلْدَتِي ثُم الْتَفَت إِلْيَة وَأَكْمَل أَتَذَكَّر مَزْرَعَتِنَا وَلَيَالِي الْصَّيْف حِيْن كُنَّا نُجَمِّع مَا تَبَقَّى مِن ثِمَار الْزَّيْتُون وَنَقُوْم بِعِصْرِهَا كُنَّا أَنَا وَأُخُوَّتِي مَع بَاقِي الْأَطْفَال نَبْقَى مُسْتَيْقِظَيْن طَوَال الْلَّيْل لِلْاسْتِمَاع لِقِصَص الْجِدَّة فَقَد كَانَت أَعْيُنا تَتَرَاقَص مَع رَقَصَات تُكْسَر الْحَطَب وَهُو يَشْتَعِل فَرَحَا بِقُرْب الْأَحِبَّة
ابْتَسَم الْرَجُل وَكَأَن تِلْك الْذِكْرَيَات أَحْيَت ذَالِك الْطِّفْل بِدَاخِلَة وَالْتَفَّت مُرَّة أُخْرَى لِصَدِيْقَة لِيَتَأَكَّد مِن انَّه مَازَال يَسْتَمِع لَه ثُم أَكْمَل
آَه كَم اشْتَاق لِتِلْك الْأَيَّام ولرَائِحّة يَد أُمِّي وَلِصَوْتِهَا الْحَنُون وَهِي تَقُوْم بِإِيْقاظُنا كُل صَبَاح" سَرَّح الْرَّجُل مَع هُدَوَء الْلَّيْل إِلَى ذَالِك الْصَّخَب حِيْن كَان يَجْتَمِع مَع عَائِلَتِه حَوْل مَائِدَة الْطَّعَام لِتَنَاوُل وَجْبَة الْعِشَاء وَأَحَادِيْث إِخْوَتِه الْمُشَوِّقَة عَن مُغامَرَتِهُم الَّتِي لَا تَتَعَدَّى حُدُوْد الْمَزْرَعَة وَلَكِنَّهَا كَانَت حَافِلَة بِالْنِّسْبَة لَهُم
"لَا اعْلَم لِمَاذَا غَادَرَت " حَرَّك الْرِّجْل الْحَطَب بِعَصَبِيَّة " كَم كُنْت غَبِيّا
كَانَت الْنَّار تَتَّقِد بِجُنُوْن مَع هُبُوْب نَسِيْم الْلَيْل وَكَأَنَّهَا تَشَارَك هَذَا الْغَرِيب غَضْبَة
صَوْت أَنِيْن مُنْخَفِض أَعَادَه لِوَاقَعَة لِيَنْهَض مُسْرِعَا
" اصْمُد يَا صَدِيْقِي فَغَدَا سَنَكُوْن هُنَاك . لَا تَتْرُكِنِّي وَحِيْدَا هُنَا
"وَالْلَّه إِنِّي لااشْتم رَائِحَة طُبِخ أُمِّي وَاسْمَع أَصْوَات إِخْوَتِي"
وَقَف الْحِصَان وَكَأَن قُوَّة خُفَّيْه تُحَرِّكُه فَقَد أَشْعَلَت كَلِمَات صَاحِبُه الْحَيَاة بِدَاخِلَة
نَعَم يَا صَدِيْقِي كُن مَعَي فَغَدَا سَنَكُوْن هُنَاك وَانْطَلَق الْرَّجُل هُو وَحَصَانَة إِلَى الْوَطَن
كَانَت الْأُم أَوَّل مَن يَسْتَيْقِظ كُل صَبَاح كَعَادَتِهَا دَائِمَا فَهِي تَقْف عَلَى الْبَاب لِفَتْرَة قَبْل أَن يَسْتَيْقِظ أَبْنَائِهَا لتُراقِب الْطَّرِيْق كَان لَدَيْهَا أَمَل قَوِي بَان وَلَدِهَا سَوْف يَعُوْد وَالْيَوْم لِا تُعَلِّم لِمَاذَا وَلَكِنَّهَا تَشْعُر بِشَي مِن الْسَّعَادَة شُعُور لَم يَجْعَلْهَا تَنَام لَيْلَة الْبَارِحَة
"يَارَب اعِد لِي ابْنَي" رُفِعَت الْمَرْأَة يَدَهَا إِلَى الْسَّمَاء وَلَم تَكَد تُنْزِلُهَا حَتَّى شَاهَدْت ذَالِك الْغَرْيِب وحِصانَه يَشُقَّان ظَلَام الْمَزْرَعَة وَيُبَدّدَان ضَبَاب الْغُرْبَة بِخُطُوَات وَاثِقَة
وَمَع كُل خَطْوَة يَقْتَرِب فِيْهَا ذَالِك الْغَرْيِب مِن الْمَنْزِل كَانَت ضَرَبَات قَلْب الْأُم تَزْدَاد جُنُوْنْا وَعَيْنَاهَا تَزْدَاد ثِقَة " انَّه ابْنِي وَلَا شَك " نَطَقْتُهَا الْأُم لِتَصْرُخ بِاسْمِه
وَتَرْكُض نَحْوَه وَلَم يَكَد يَلَمَحَهَا الْابْن حَتَّى رَكَض هُو الْآَخَر نَحْوَهَا وَكَأَن رُؤْيَتُه لَهَا قَد مَسَحْت آَلَامِه وَأَعَادَت إِلَيْه رُوْحَه
كَانَت الْدُّمُوْع تُغَطِّي وَجْهَهَا حِيْن أَمْسَكْت بِه لِتَسْتَقَبْلَّه أَحْضَانِهَا الْدَّافِئَة
كَان حِضْن أُمِّه وَطَنِه الْأَكْبَر مِيْنَائِه الَّذِي رَحَل عَنْه وَلَم يَجِد مِثْلِه آَبَدَا
اسْتَيْقَظ الْجَمِيْع عَلَى صَوْت الْأُم وَهِي تَمْطِر وَلَدِهَا بِتِلْك الاسَئِلَّه الْحَنُونِة
لِيُشَارَكُوْهَا فَرْحَتَهَا فَرِحَت عَوْدَة ابْنَهُم الَّذِي اخْتَفَى فِي ضَبَاب الْغُرْبَة
الْنِّهَايَة
المفضلات