قصاص الأثر
ما أقسى الانتظار وما أمر لحظاته وخصوصاً عندما يكون متعلقاً بأقرب الناس إليك,مر على تساقط دموعي بعض الوقت ,سمعتُ بعدها صوت سيارة تقف بقرب الباب ,نظرتُ إليها من تحت فتحة الباب , ثم نهضتُ بسرعةٍ لكي أرى سيارة من تكون؟ ومن يستقلها؟ فتحتُ الباب واستقبلتني أصواتُ والدتي وأم سعود, نزل أبو سعود قبلهم ,وكان يحمل معه صندوقاً لا أعرف على ماذا يحتوي!! كنتُ متسمرة في مكاني من شدة المفاجأة فلم أكن أعتقد بأني سوف أرى والدتي ثانية!! كان هذا الشعور يتكررُ معي في كل مرةٍ لا أجد فيها والدتي,
كنتُ قد انهرتُ تماماً ولم أعد قادرةً على الوقوف,فجلستُ على الأرض وتساقطت دموعي بغزارةٍ من خلف حجابي, لم أستطع أن أتكلم بكلمة واحدة حتى هدأت نفسي, سألتُ والدتي أين كنتِ؟وما هذا الصندوق الذي جئتم به يا أمي؟ قالت: لقد انتهزتُ فرصة غياب والدك عن البيت وذهبتُ مع أبو سعود وأم سعود, لشراء مكينة خياطة لكي أشغل بها وقت فراغي يا نورة!! ضحكتُ بقوة في نفسي من كلام والدتي ,فأي فراغ يوجد لديك بالله يا أمي؟؟ بل قولي لكي تخيطي بها ملابسنا وتستري بها أجسادنا النحيلة!! تباً لأب لا يقي بناته من ذلِ الحاجة!! ساعدتُ والدتي في حمل الصندوق وقمنا بإدخاله إلى غرفة جانبية, وهَمَستْ إلىَّ والدتي بصوت خافت قائلة, نورة لا أريد أن يعرف والـدك بأمر المكينة, فهو لن يقبل بوجودها أبداً في البيت!!
سألتها بالمناسبة عن والدي وأين هو؟ قالت لقد سافر والدك مباشرة منذ الصباح بعد أن أفطر مع ضيوفه,توجهتُ مع والدتي إلى المطبخ وبدأنا في إعداد غداء خفيف لنا, كان غداءنا من بقايا إفطار والدي مع ضيوفه, فعندما يكون والدي غائباً عن البيت لم نكن نحرص على أن نُعِد غداءً معيناً ,فأكثر شيء كان يهمنا وقتها هو الاستمتاع بكل لحظة عائلية يكون والـدي خـارج إطارها!!بل كان الأمر يتعدى ذلك ,فقد كنا نرقص ونلعب أيضا ,حتى والدتي كانت ترقص وتلعب معنا أيضا!!
حتى أختي الصغيرة دلال أو (دلول) كما ندلعها ,كانت طريقتها في الكلام تتحسن بشكل غريب, عندما يكون والدي خارج حدود المنزل!! كانت تلعبُ مع أختي سارة طوال الوقت,ولا تفلح كل محاولاتي في جعلهن أكثرُ هدوءً ,إلا عندما أخبرهن بأن عودة والدي باتت قريبة,ومن الممكن أن يطـل علينا فـي أية لحظة!!
انتهينا من تناول الغداء,وقمتُ بغسل الأطباق ودخلتُ حجرتي ,استلقيت على فراشي,وأخذتُ أفكر في كلام المعلمة ,وكيف سيكون شكل المذكرة التي ستهديني إياها؟نمتُ قليلاً وأنا أحلم بمذكراتي,ثم نهضتُ, وأثناء ما كنتُ أمشطُ شعري سمعتُ طرقاتٍ خفيفة على الباب!! جريتُ مسرعةً لأفتح الباب وكانت أختاي قد سبقتاني لفتحه, وتفاجأت بكومة حطب كبيرة أمام الباب!!كان أبو سعود يقف خلفها!! بادرني أبو سعود قائلاً: هذا الحطب يا نورة قد جمعه لكم أهل الحارة عوضاً عن الحطب الذي احترق يوم أمس! ثم قال: قولي لوالدتك أن تبتعد عن صدر البيـت , لكـي ندخل الحطـب ونضـعه في مكانه!!
جريتُ مسرعة وأخبرتُ والدتي ,فأسدلت الغطاء على وجهها وجاءت مسرعةً , وأخذت تشكر أبو سعود ومن معه من الرجال ثم دخلت المطبخ وجهزت القهوة والشاي ,وانتظرتهم حتى فرغوا من وضع الحطب في مكانه,فوضعت القهوة والشاي بقرب الباب , وأقسمت عليهم ألايذهبوا قبل أن يتناولوها, فما كان منهم إلا أن أخذوها وجلسوا بقرب الباب خارج البيت وبدأوا في تناولها, نظرتُ بعدها إلى والدتي ووجدتها تنظرُ إلى كومة الحطب ودموعها تتساقط!!
وكعادتي في كل موقف مشابه لايكون بيدي شيء أفعله سوى أن أنظر بفطرتي إلى السماء وأدعو الله أن يلطف بحالنا,انتبهنا على صوت أبو سعود وهو يقول: أكرمكم الله يا أم نورة, أكرمكم الله يا أم نورة, مَسَحَتْ والدتي دموعها ثم دخلت الغرفة وبمساعدتي أخرجت المكينة من الصندوق, ثم أخذت تجرب حضها في الخياطة كما تقول!!
طلبت والدتي مني أن أتفقد ماء وطعام والأغنام, سِرتُ باتجاه الأغنام وعندما اقتربت منها ,وجدتُ الشاة ترضع وليدها الصغير,وتحِن عليه بشكل غريب! بشكل أثر فيني كثيراً فتكلمتُ لاشعورياً بصوت مسموع وأنا أقول: ليتك تتعلم يا والدي معنى العطف والرحمة من هذه الشاة!!
انتهيتُ من وضع الطعام والماء, وسمعتُ بعدها طرقات على الباب وتوجهتُ إليه لأفتحه, وكانت مريم الدلالة, ومعها ابنتها الصغيرة سارة ,تحمل كتبها المدرسية!! وبعد السلام والسؤال عن الأحوال ,طلبت مني أم سارة أن أقوم بالمذاكرة لابنتها فهي لا تستطيع ذلك بمفردها, طلبتُ منها الدخول ريثما أستأذن من والدتي, أخبرتُ والدتي فجاءت ورحبت بها وبابنتها ,وطلبت مني أن أذاكر للصغيرة سارة,
أخذتُ قطعة سجاد قريبة, وافترشتها في الظل بجانب الجدار, وأجلستُ سارة بقربي وبدأتُ في تدريسها, فيما دخلت والدتي وأم سارة في غرفة المكينة ,إذ وجدتها والدتي فرصة لكي تسألها عن بعض ما يصعبُ عليها في أمر الخياطة,سبحان الله حتى الحظ كان قليلاً ما يقفُ مع والدتي!! وربما كان ينطبق على حظ والدتي هذا البيت الشعري:[إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه//ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه]!!
انتهى هذا اليوم وكان جميلاً جداً قضيته في الحديث مع والدتي ومراجعة واجباتي المدرسية, ويكفي لجمال هذا اليوم أن والدي لم يكن موجوداً فيه,من الغد صحوتُ من النوم على صوت أذان الفجر, ومباشرة توجهتُ إلى غرفة والدتي لكي أطمئن عليها, ولكني تفاجأتُ بوجودها أمامي ,في ساحة البيت وقد أشعلت التنور وبدأت في خبز الخبز!! جريتُ مسرعةً إليها وسألتها لماذا هذا الخبز الكثير ووالدي غيرُ موجود؟! قالت لقد جاء والدك قبل الفجر وطلب مني أن أعد الإفطار له ولضيوفه!!آآهٍ وآآه أما لهذا الوضع من آخر؟!
وأمام قناعتي بفشل كلَ محاولاتي في عدم الذهاب إلى المدرسة والبقاء مع والدتي, لم يكن أمامي إلا أن أذهب, حملتُ حقيبتي وودعتُ والدتي
فتحت الباب وخرجت,أخذتُ طريقي إلى المدرسة وأنا في كل خطوة أخطوها أنظر باتجاه منزلنا حيث والدتي, وأتساءل مع نفسي هل يجب عليَّ أن أعيش هذا الشعور يومياً؟؟
أخذتُ مقعدي بين الطالبات, لم يمض وقتٌ طويل حتى دخلت المعلمة وتوجهت إليّ مباشرة وقالت: تفضلي يا نورة هذا ما وعدتكِ به,أخذتُ منها دفتر المذكرات بفرح كبير وشكرتها بفرح أكبر,وسألتها: كيف سأبدأ الكتابة في دفتري يا أستاذة ,قالت: اكتبي ما تشائين يا نورة, أي شيء ترينه مهما في حياتك ويستحق الكتابة فاكتبيه, كنتُ أنتظر قدوم الفسحة بلهفة كبيرة كي أقوم بتجربة كتابة مذكراتي.وأنا أتساءل ما هو أهم شيء في حياتي ويستحق أن أدونه في دفتري هذا؟؟
بدأت الفسحة ولم أتحرك من مكاني ,انتظرتُ حتى خرجت جميع الطالبات من الصف, ثم بسرعة أخرجتُ دفتر مذكراتي, وفتحتُ أول صفحة وكتبت:أنا الآن في المدرسة وأنا أفكر كثيراً في أمي , وأمي هي كلُ كياني, وجارتنا أم سعود في قلبي, وجارنا أبو سعود هو أحسن من والدي, ودلال وسارة عصافيري, ووالدي لولا الدين ولولا اليمين لقلنا لك إننا كارهين!!
انتهتُ الفسحة ودخلت الطالبات تباعاً وأخذت كل واحدة مقعدها, بعدها جاءت معلمة الدين وألقت السلام علينا, ثم مشت باتجاهي وتوقفت فوق رأسي وقالت: نورة هل تسمحين أن أرى دفتر المذكرات الذي أهدتك إياه المعلمة منيرة لأنني أريد أن أشتري لي مثله, تلعثمت قليلاً وترددت في إخراجه من الدُرج, ثم لم أجد بداً من إخراجه فأخرجته وناولتها إياه ويدي ترتجف وأنا أنظرُ إلى سطح الطاولة,
ثم رفعتُ بصري وأخذتُ أنظرُ إليها وهي تتصفح دفتري!! فنظرت المعلمة إليّ وقالت: عفواً يا نورة هل أنت من كتبَ هذا الكلام المكتوب هنا؟! (وأشارت إليه) قلتُ بصوت خافت: نعم يا أستاذه أنا من كتبه!! استدارت المعلمة وقالت: طيب تعالي معي يا نورة!! نهضتُ من مكاني وتبعتها
وأغلقتُ بعدها الصفحة الرابعة من صفحات حياتي
يتبع إن شاء الله في الحلقة الخامسة
رد مع اقتباس
[اليتيمة] – [الحلقة الرابعة]
ضوابط المشاركة
المفضلات